mercredi 3 juin 2009

الحداثة المترددة، بقلم محمد الشرفي


عاش العالم العربي، في أواخر الخمسينات وأثناء الستّينات، نوعاً من التمزّق الناجم عن وجود خطابات سياسيّة متضاربة متناقضة؛ ففي الشرق، وتحديدا في بلدان الهلال الخصيب، كان حزب البعث مسيطراً سيطرة لا ينازعه فيها غيره، وفي مصر والمغرب العربي كان كل من جمال عبد الناصر وهواري بومدين والحبيب بورقيبة يتعادلون في الأهمّية ويتماثلون في عظمة الشأن ويتقاسمون صفات الزعامة. هؤلاء الأربعة: الحزب والقادة الثلاثة، كان لكل واحد منهم إستراتيجيته الخاصة وأسلوبه الذاتي، ولعلّه من المفيد أن نقارن اليوم بين نتائج هذه المحاولات الأربع.

كان حزب البعث، في بداياته، حزباً علمانياً حديثاً، وكانت هاتان السمتان واضحتيْن فيه، إذ تألّفت النواة المؤسسة له من مسيحيين ومسلمين يتعسّر عليهم الالتقاء والتآلف على أساس ديني، مما جعلهم يبلورون مشروعاً مستقلا عن العقائد خارجاً عن الديانات.
غير أنّ تحديث المجتمع كان بالنسبة إليه أمراً ثانوياً بالنظر إلى الهدف الأساسي المتمثل في توحيد العالم العربي، وكان الأنموذج المتردد في الأفواه والحاضر في الأذهان باستمرار هو أنموذج توحيد كل من إيطاليا وألمانيا في القرن التاسع عشر. لذلك بدا أنه بالإمكان ـ تعجيلاً ببلوغ الهدف المنشود ـ استعمال جميع الوسائل بما في ذلك الوسائل العسكرية وسيطرة الدولة الموحّدة. ولزم عن ذلك أن انصرف الجهد إلى القوى العسكرية، وبدل أن تنتشر تنظيمات المناضلين وتتعدد نوادي المثقّفين للنقاش، انصرف الجهد إلى تصفيف الكتائب المدرّعة يواجه بعضها بعضاً، ومن ثم كانت الانقلابات المتكرّرة، ثم الانفصال بين البعث السوري والبعث العراقي.
وعبثاً نحاول البحث عن أدنى اختلاف إيديولوجي حقيقي يفسر الخلاف بين هذين الشقّين. ولا يتأتّى لنا في الواقع فهْم الصراع بين هذين المعسكرين إلا إذا استحضرنا أنه لمّا كان الحلم المشترك هو إحياء العصر الذهبي العربي، فإنّ السوريين يرونه عصر بني أمية الذين كانت عاصمتهم دمشق، في حين يراه العراقيون عصر العباسيين الذين كانت عاصمتهم بغداد.

وهكذا لم تكن العروبة إلا واجهة زائفة تُردّ إلى قطرية ضيّقة ذات منزع توسّعي. أمّا الأنظمة فقد تزايد تسلّطها وعملت على إسكات أصوات منافسيها، الذين كان يحدوهم منزع توسّعي آخر وهم الأصوليون الإسلاميون. وللحد من تأثيرهم، جرت محاولة إرضاء الشرائح الاجتماعية التقليدية التي ينشطون في أوساطها، فكان أن تم وأد المشروع التحديثي. فالنظام السوري يتحالف مع التيار الإسلامي الراديكالي في إيران ومع حزب اللّه اللبناني؛ وفي العراق وصل الأمر إلى حد الادّعاء بأن ميشيل عفلق، الرئيس المؤسس للحزب وهو من أصل مسيحي، قد أسلم وهو على سرير الموت… حتى لا يموت وهو على هذه الحالة من "الخطيئة الأصلية". أمّا صدّام حسين فقد رسم غداة اجتياح الكويت عبارة "الله أكبر" على العلم العراقي.

ويمكن أن نخلص من ذلك إلى أنّ مشروع العلمانية والتحديث تمت التضحية به لفائدة مشروع الوحدة، الذي فشل، وأن الحزب لم يعد سوى ذكرى باهتة.
أمّا الرجال الثلاثة، عبد الناصر وبومدين وبورقيبة، فقد قام بينهم خلاف، صامت أحياناً وصريح في أغلب الأحيان. فإذا كانت مسائل جزئية فقط تفصل عبد الناصر عن بومدين، فإنّ الاختلاف بينهما معاً من ناحية وبين بورقيبة من ناحية أخرى كان عميقاً.

كان عبد الناصر خطيباً كبيراً ماهراً في تعبئة الجماهير، وكان رجلاً افتتنت به الجماهير لنزاهته ونظافة يديه. كما كان قائداً ذا نزعة تحديثية مخلصة، غير أنّ هذه النزعة كانت عنده مترددة، لأنها كانت ثانوية بالنظر إلى هدفين كبيرين لهما عنده الأولوية، وهما الوحدة العربية وتحرير فلسطين. ولمّا كان بلوغ هذين الهدفين يتطلّب تعبئة الشعب وإرضاء الرأي العام دون تهميش لأيّ جزء منه، فقد قاده سعيه للحصول على تأييد شعبي مكثّف إلى القيام بتنازلات كبيرة لفائدة الشريحة الاجتماعية التقليدية.
صحيح أنه قاوم الإخوان المسلمين، وذهب به الأمر إلى حد إعدام منظّرهم سيّد قطب، إلا أن تلك المقاومة لم تتّصل بجوهر المشكل، ولم تفضِ إلى أبعد مما أفضت إليه، باعتبار أنّ الصراع كان في حقيقة الأمر صراعاً دائراً بين "أخوة". فلمّا كانت العروبة والإسلام وجهين لإستراتيجية واحدة، هي الإستراتيجية القائمة على الهوية، فإنّ كلاّ من القوميين العرب والإخوان المسلمين مجرد أخوة، وإن تعادوا أحيانا. فلكي يمعن في مقاومة الإسلاميين الذين حاولوا اغتياله، تقرب عبد الناصر إلى علماء الدين، أي إلى الإسلام الرسمي الذي هو منجم الإسلام الشعبي المناضل؛ كما طوّر جامعة الأزهر (التي سيبلغ عدد طلبتها مائة ألف شخص سنة 1995)، وعطّل كل ما من شأنه أن يحرج الإسلاميين.

وهكذا، آلت حركة تحرّر المرأة، في عهد "الضباط الأحرار"، إلى الاختناق، وذلك على الرغم من أنها كانت الحركة الأقوى في العالم العربي سنة 1952. كذلك لم يُنجز شيء هام في اتجاه تقنين الحياة العائلية. ولئن ألغى عبد الناصر المحاكم الطائفية المهترئة سنة 1955(1)، فإنه أسند صلاحياتها إلى محاكم عادية يسيطر عليها قضاة مسلمون ذوو تكوين تقليدي، يطبّقون الشريعة الإسلامية كلما تعلّق الأمر بقضيةٍ يكون أحد أطرافها مسلماً، الأمر الذي جعل وضع الأقباط يتدهور بدل أن يتحسّن(2). ولم يكن هناك أيّ سعي لوضع خطة في تنظيم النسل خشية إغاظة علماء الأزهر. وفي الجملة، لئن لم يستطع عبد الناصر أن يحقق الوحدة العربية ولا تحرير فلسطين، فإنه لم يحقق أيضا تحديث المجتمع المصري. بل إن المجتمع المصري قد تقهقر خطوات عديدة إلى الوراء!

أمّا بومدين فقد كان له منهج سياسي أقرب ما يكون إلى منهج عبد الناصر، ولكن كانت له خصوصياته، إذ كان إضافة إلى منزعه العروبي نصيراً متحمساً للاشتراكية العلمية وللنضال ضد الإمبريالية. وكان يحلم بأن يرى بلاده تقوم بدور قيادة إفريقيا، بله إلى قيادة العالم الثالث كله! ولبلوغ تلك الغاية، كان لا بد في رأيه من أن تكون الجزائر قوّة وازنة، وأن يكون سكّانها أكثر عدداً مما كانوا عليه، وأن تكون أقوى من جيرانها. ومن ثمة كان رفضه كل سياسة في تحديد النسل، واختلاق مشكل الصحراء الغربية لإضعاف المغرب، ونسف مشروع الوحدة التونسية الليبية، تحسّباً من أن يدعم ذلك قدرات تونس.
وكان بومدين يعتقد، مثل عبد الناصر، أنّ المشاريع العظيمة تستوجب ضرورةً الإجماع الكلي، وهو ما أدّى به إلى القيام، على الرغم من منزعه التحديثي، بما يلزم لإرضاء الشريحة التقليدية من المجتمع. فقدّم هديّة لا تقدّر بثمن إلى رجال الدين بأن تخلّى لهم عن قطاع التربية، حيث واصل سياسة بن بلّة بالالتجاء إلى المتعاقدين المصريين بأعداد وفيرة. واغتنم عبد الناصر تلك الفرصة ليتخلّص مؤقّتا من الأصوليين الذين سيُدرّسون بالجزائر، وسيكونون إطارات "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" و"الجماعات الإسلامية المسلّحة".

وبالتوازي مع ذلك، أنشأ بومدين عدداً من معاهد الدراسات الإسلامية التي انقطعت لتدريس الأفكار الأشدّ إغراقاً في التقليد. أمّا فيما يتعلق بحقوق العائلة، فإنه تردد حتى وفاته بين مشروع مدوّنة تهدف إلى تحديث البنى العائلية وتحرير المرأة، وبين مشروع تقليدي صارت الغلبة له في عهد الشاذلي بن جديد. ناهيك أنه في سنة 1991 قدّر الكثير من الناخبين أنه لا فرق بين مرشّحي "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" ومرشّحي "جبهة التحرير"، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة إمساك الناخبين عن التصويت.

وأمّا ثالث هؤلاء الرجال، الحبيب بورقيبة، فلم يكن، على الرغم من الشهرة الفائقة التي اصطنعت له، مناهضاً للإسلام ولا للعروبة، وكل ما في الأمر أنه كان ينظر إلى الزعماء العرب في ذلك العهد بشيء من الاحتقار. وتقوم المجازفة الكبيرة ـ ولكن المحسوبة ـ التي أقدم عليها سنة 1965 بأريحا، عندما دعا في خطابه التاريخي إلى التفاوض مع إسرائيل ـ وذلك في زمن كانت فيه القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة عربيّة ـ شاهداً على صدق انتصاره للقضية الفلسطينية. ونتيجة لذلك تعرّض بورقيبة إلى سيل من الشتائم من قبل الرأي العام العربي، مدعوماً في ذلك من قادته، كما ترتّب على ذلك اهتزاز في الرأي العام التونسي. وفي ذلك ما يدل على أنه دفع الثمن غالياً في سبيل شعوره العربي الإسلامي أكثر مما دفع جل القادة العرب الآخرين.

كان عبد الناصر يرى أن الاستعمار سبب مآسينا، وأنه استغلنا وأذلنا وفرض علينا حدودا مصطنعة يقضي الواجب بإزالتها. ولبلوغ تلك الغاية، كان يلقي خطابات جياشة متغنيا بنخوة المواطنين وبشعورهم القومي لتعبئتهم ضد الإمبريالية. أما بورقيبة فلم يكن يُلهب إحساس أحد ولكنه كان يجلب اهتمام كل الناس. لقد كان يخاطب عقول المواطنين في هدوء ليفسر لهم أسباب تخلفنا، وهي أسباب لم تعد منذ الاستقلال كامنة إلا فينا. وكان يدل على السبل التي تمكّن من الخروج منه: واجب علينا أن نحرر نساءنا حتى يساهمن في بناء مجتمع جديد، فجاءت "مجلة الأحوال الشخصية"؛ وواجب علينا أن ننظم النسل حتى لا ينسف التكاثر الديمغرافي النمو الاقتصادي، فكانت المجهودات الجبارة التي بذلت في مجال التنظيم العائلي؛ وواجب علينا أن نفكّر في أسباب تأخرنا وأن ننقطع للعمل وأن نغير ذهنياتنا وهياكلنا الاجتماعية حتى نكون محدثين "فنلتحق بركب الحضارة". إنه تحليل تأسّس على النقد الذاتي أكثر مما استهدف نقد الآخرين. وتلك أهداف تبدو في ظاهرها متواضعة للغاية، ولكنها في آخر الأمر أهمّ من غيرها وأكثر قابلية للتحقق. وها هي تونس تجني اليوم ثمار تلك السياسة.

غير أنّ هذا الذي ذكّرنا به لا يمنع من القول إنّ بورقيبة كان مستبداً معجباً بنفسه، وأنه حكم بالحزب الواحد والتعذيب ومحكمة أمن الدولة، وأن هذا المسّ بالحريات العامة لم يكن مشروعاً ولا حتى مفيداً لسياسته.
لذلك فإنّ الحداثة التونسية، مع أنها كانت حداثة حقيقية، ظلّت بفعل تصرّف بورقيبة حداثة منقوصة نظراً لافتقارها إلى الديمقراطية. أمّا في البلدان العربية والإسلامية الأخرى، فإن تحديث الدولة والمجتمع لم تأخذه السلطات العمومية مأخذ الأولوية، لذلك كانت الحداثة فيها أقل استبطاناً مما هي في تونس.

مقتطف من الإسلام والحرية لمحمّد الشّرفي
رابطة العقلانيّين العرب ودار بترا، 2007


الهوامش :

1] -طبق هذا القرار تدريجيا ولم يصبح ساري المفعول كليا إلا سنة 1974.
- S.A.A. Abou Sahlieh, Non musulmans en pays d’islam, Fribourg, 1979.[2]

3 commentaires:

Anonyme a dit…

Merci pour cette note, excellent choix!

Monji

MrGhabi a dit…

Mohamed Charfi a oublie de dire que le pays n'etait pas pret pour la democratie a l'epoque. Regionalisme, tribalisme, des opposants qui portaient des projets multinationales: communistes, panarabes, Islamistes, ..., manque de projets et d'idees claires, ...

Les perspectivistes l'en veulent encore a Bourguiba, malgre tout le de-dommagement qu'ils ont recu de son successeur.

Merci pour cette note.

MrGhabi.

DIDON a dit…

merci à Monji et à mr Ghabi et à toute personne ayant apprécier cette lecture.

pour commémorer le souvenir d'un aussi grand personnage qu'est Mr M. CHARFI qui nous a quitté le 6 juin 2008 j'ai pas trouvé de mieux que ce qu'il a écrit lui même pour lui dire qu'on ne pourra jamais l'oublier avec tout ce qu'il nous a léguer comme œuvres comme itinéraire et comme idées originales progressistes lucides claires et que l'avenir s'en souviendra !
un aussi grand et précieux héritage nous serons toujours là pour le défendre de notre vivant comme de notre absence et comme il a lutté toute sa vie pour une Tunisie moderne, laïque et progressiste nous sommes tous là pour le même combat !
en commençant précisément par l'éducation qui reste la clé de toute promotion sociale culturelle et autres .......
que vous puissiez reposer en paix cher monsieur CHARFI votre combat et le notre aussi!